أثارت القرارات، المفاجئة، التي اتخذتها
الإدارة التركية مؤخرا عدة تساؤلات حول الدوافع الحقيقية لإعادة تطبيق العلاقات
التركية مع الجانب الإسرائيلي ثم مع الجانب الروسي.
فمبوجب تلك القرارات، تقرر تطبيع العلاقات
التركية الإسرائيلية، 26 يونيو الجاري، بعد ستة سنوات من التوتر، على خلفية
الإعتداء الإسرائيلي على سفينة "مافي مرمرة" في عام 2010 والتي راح
ضحيتها 10 أتراك. كما وتقرر تطبيع العلاقات مع الجانب الروسي، 27 يونيو الجاري،
واعتذار تركيا عن اسقاط الطائرة الحربية الروسية، سوخوي 24، في نوفمبر من عام 2015
على الحدود التركية السورية.
وفي المجمل يعد الدافع الاقتصادي دليل قوى
لتفسير التطبيع التركي مع أثنين من الشركاء التجاريين، على درجة عالية من الأهمية،
لدى الإدارة التركية.
مؤشرات ضاغطة
وصف البنك الدولي الإقتصاد التركي بأنه أحد الاقتصادات الصاعدة النشطة التي تمضي على
الطريق نحو بلوغ مصاف البلدان مرتفعة الدخل. شريطة استمرار معدلات النمو على
وتيرتها، إذ بلغ معدل النمو الاقتصادي السنوي 4.5 في المئة، في المتوسط، خلال
الفترة من 1960 حتى عام 2012، تخلل ذلك معدلات قياسية تجاوزت 9 في المئة عام 2010.
الإ أن الإقتصاد التركي أصبح أكثر تقلبا وشهد
تراجع في مؤشرات الاقتصاد الكلي، بدءا من عام 2012، لعدة اسباب تراوحت ما بين تحديات
داخلية؛ لعل أهمها تدفق اللاجئين والتحديات الأمنية والإرهابية فقد شهدت تركيا
أحداث إرهابية عدة، زادت حدتها في النصف الأول من عام 2016 تخللها خمس عمليات
إنتحارية كان أخرها تفجير مطار أتاتورك في اسطنبول والذي راح ضحيته لا يقل عن 40
شخص غير الإصابات. وتحديات خارجية؛ وأهمها تباطؤ النمو الاقتصادي بالصين
ودول أوروبا الغربية. أضف لذلك العقوبات الاقتصادية الروسية والتي عمقت أزمة
الاقتصاد التركي وقللت من إحتمالات نموه.
شملت العقوبات الروسية على تركيا حظر سفر
الرحلات السياحية إلى تركيا، وإعادة العمل بنظام التأشيرات لدخول الأتراك إلى
روسيا، بعد الإعفاء المتبادل لتأشيرة الدخول والمعمول به منذ عام 2010، وبمقارنة
الربع الأول من عام 2015 بالربع الاول من عام 2016 فقد انخفضت الإيرادات السياحية
التركية بمقدار 16.5 في المئة متأثرة بإنخفاض عدد السياح الروس إلى أراضيها.
أضف لذلك تشديد الرقابة الجمركية على البضائع
التركية وحظر استيراد بعض السلع أهمها الخضر والفاكهة، وتعليق العمل في مشروع خط
أنابيب الغاز "تركيش ستريم" مع تركيا والذي تنفذه شركة
"غازبروم" المملوكة للحكومة الروسية. وفي المجمل فقد تأثرت مؤشرات
الاقتصاد الكلي وتراجع مؤشر الثقة في الاقتصاد التركي في الأعوام الخمسة الأخيرة.
مؤشرات الاقتصاد التركي بين عامي 2010 -2015
المؤشر
|
عام 2010
|
عام 2015
|
تقييم
|
معدل النمو
|
9.2
|
5 *
|
تدهور
|
معدل البطالة
|
11.1
|
10.3
|
تحسن
|
معدل التضخم
|
7.4
|
8.2
|
تدهور
|
مؤشر الثقة (للمستهلك)
|
73.7
|
66.3
|
تدهور
|
العملة
"الليرة" التركية
|
1.5 ليرة/ دولار
|
2.9 ليرة/ دولار
|
تدهور
|
مصدر البيانات: جهاز
الاحصاء التركي- البنك المركزي التركي- البنك الدولي
*متوقع (لم يعلن عنه
بعد)
المصالح المشتركة
1- المصالح التركية الروسية.
يعد الاقتصاد المحرك الأول للعلاقات بين
البلدين، فقد بلغ حجم التبادل التجاري السلعي بين تركيا وروسيا 31 مليار دولار
عام 2014، وصلت الصادرات السلعية إلى ما يقرب من 6 مليار دولار، بينما وارداتها من
روسيا تجاوزت 25 مليار دولار. ومع الأخذ بعين الاعتبار "تجارة الخدمات" فإن
مؤشر التبادل التجاري الكلي (بضائع وخدمات) بلغ ما يقارب 44 مليار دولار. كما امتنعت تركيا الإنضمام إلى الغرب في فرض
عقوبات على روسيا على خلفية القضة الاوكرانية كدليل دامغ على قوة العلاقات
الاقتصادية.
الغاز الروسي؛ تخوف روسيا من فقدان حصتها في السوق التركي،
ثاني أكبر سوق للغاز الروسي بعد ألمانيا عام 2015، من الغاز لصالح الغاز
الإسرائيلي، عقب تطبيع العلاقات الإقتصادية التركية الإسرائيلية، كان أحد الأهداف
الرئيسية في العودة السريعة العلاقات الروسية التركية إلى طبيعتها. ومن جهة أخرى تعتمد
تركيا على 55 في المئة من احتياجاتها من الغاز على الغاز الروسي، ومثلت واردات
تركيا من الغاز الروسي عام 2010 ما قيمتة 30 مليون متر مكعب.
وقد أعلن الرئيس الروسي في وقت سابق، خلال
زيارة رسمية إلى تركيا عام 2012، عن مد خط أنابيب إلى تركيا مباشرة ثم مد خطوط إلى
اليونان من تركيا، لتلعب تركيا دور الموزع للنفط الروسي بدول أوروبا المجاورة
لتحقيق نفع متبادل.
قطاع السياحة؛ يعد قطاع السياحة أحد القطاعات الحيوية للاقتصاد التركي والذي يسهم
بمقدرا 6.2 من الدخل المحلي التركي، ويوفر 8 في المئة من فرص العمل المباشرة. وقد أدي
التوتر مع روسيا إلى تراجع قياسي في عدد السياح الوافدين إلى تركيا في مايو عام
2016. والذي شهد نسبة انخفاض بلغت 92 في المئة من السياح الروس وانخفض عدد الوافيدن
بشكل عام بنسة 35 في المئة مقارنة بمايو من العام 2015. كما أن تركيا تمثل الوجهة
المفضلة للسياحة الروسية وبخاصة منتج أنطاليا السياحي بجنوب تركيا. وعقب الاعتذار
التركي، وخلال مكالمة هاتفية بين الرئيس الروسي والرئيس التركي قد تعهد بوتين برفع
الحظر عن السياحة الروسية لتركيا وإعادة العلاقات التجارية بين الجانبين.
صادرات الخضر والفاكهة؛ لوقت طويل كانت تركيا مصدر رئيسي للخضر
والفاكهة الى السوق الروسي ، وكنتيجة للعقوبات
الاقتصادية الروسية فقد انخفضت الواردات الغذائية، في الربع الاول من عام 2016 بمقدرا
2.7 مليار دولار مقارنة بنفس الفترة من العام السابق.
الاستثمارات المشتركة؛ تقع أهم أصول بنك Sber bank،
المملوك للحكومة الروسية في تريكا والذي استحوذ على بنك Denz Bank التركي بصفقة بلغت 3.5 مليار دولار في يونيو 2012. ومن جهة اخرى نفذت شركات
العقارات التركية مشاريع استثمارية كثيرة بروسيا كما أنها تجديد بناء مجلس النواب،
مجلس الدوما، وأنشات مبني إداري لشركة "جازبورم" العملاقة.
2-
المصالح التركية الإسائيلية.
تلقت تركيا اعتذارا رسميا عن حادث سفينة "مافي مرمرة" من
الإدارة الإسرائيلية في مايو من عام 2013 وظلت العلاقات بين البلدين باردة. وأقدمت
تركيا على التطبيع الاقتصادي الكامل مع اسرائيل في 26 يونيو. وتقف مصالح استراتيجة
خلف هذه المصالحة أهمها؛ كسر العزلة الإقليمية، ولتحسين صورة تركيا السلبية لدي
الغرب وبالأخص لدي الإدارة الأمريكية، كما أنها تسعى لتنويع مصادرها من الغاز
الطبيعي والذي استخدمته روسيا كسلاح ردع
قوي على قائمة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها روسيا على الاقتصاد التركي في
ديسمبر من عام 2015 إبان التوتر الذي حدث بينهما.
ومن جهة أخرى أدركت الإدارة الإسرائلية، تكلفة الفرصة البديلة، وأن
بيع الغاز الاسرائيلي إلى تركيا وإلى أوروبا عن طريق تركيا سيكون واعدا. وتناقش
الشركات القطاع الخاص التركية والاسرائلية فكرة إنشاء مشروع خط أنابيب للغاز يربط
بين البلدين لنقل إمدادت الغاز الطبيعي إلى اوروبا من حقل الغاز
"ليفياثان" والذي يحوي احتياطي يقدر ب 500 مليار متر مكعب من الغاز.
تصحيح المسار التنموي
بعد تعثر أصاب الإقتصاد التركي، ورغبة في
تصحيح المسار التنموي، الذي بدأه حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم من خلال خطة
اقتصادية عام 2002، اتبعت الإدارة التركية سياسة، صفر المشاكل، والتي تبنتها
الحكومة الجديدة بقيادة رئيس الوزراء بن علي يلدرم، لتصفية الخلافات بينها
وجيرانها وللتفرغ للتحديات الداخلية التي تؤثر على مجريات الأمور الاقتصادية.
كما كانت فترة التوتر بين الجانب الروسي
والتركي، اختبار كاشف، لقوة العلاقة الاقتصادية بين البلدين. فالغاز الروسي يعد
المصدر الأساسي لإمدادات الطاقة لتركيا، كما تسعى روسيا لانشاء محطة طاقة نووية
"اكويو" بتركيا، وساهمت السياحة الروسية بما قيمته 35 مليار دولار في
الاقتصاد التركي عام 2014. وعلى الجانب الأخر تقيم تركيا مشروعات كبرى بروسيا،
وتعد المورد الرئيسي للمنتجات الغذائية لروسيا. ومن المتوقع ان يصل التبادل
التجاري بين الجانبين إلى 100 مليار دولار في غضون سنوات.
وتسعى تركيا لتحقيق أهداف استراتيجة في إطار
التطبيع الاقتصادي مع الجانب الاسرائيلي، ولعل سبق تطبيع العلاقات الاقتصادية مع
الجانب الإسرائيلي قبل الروسي، دفع الادارة الروسية للترحيب بالاعتذار التركي،
خوفا من خسارة سوق الغاز التركية لصالح تصريف غاز حقل "ليفياثان" الإسرائيلي.
وختاما؛ يمكن القول بأن الدوافع الاقتصادية كانت القاسم المشترك في
العلاقات الروسية التركية، وتسعى تركيا لتنويع مورديها من الطاقة من خلال التطبيع
الكامل مع الجانب الإسرائيلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق