ترجمة/ عمرو خليل السعيد
ترجمة مقال للأستاذ "نوح سميث" بموقع "بلومبيرغ" بعنوان:
"Markets Don't Work for Everything"
لقد قام زميلي في موقع بلومبيرغ الاقتصادي "تايلر كوين" بكتابة سلسلة من الموضوعات تحمل عنوان "الأسواق في كل شئ"، وقد قام الكثير من الكتاب والاقتصاديين برفع تلك العبارة، وذلك لسبب وجيه يعود بنا لذات الفكرة التي تم رفعها في الجزء الأخير من القرن العشرين، وهي أن الأسواق – حيث تسود حقوق الأفراد في بيع وشراء كل شئ بحرية تامة - أفضل طريقة لتنظيم مجموعة واسعة من التفاعلات بين البشر.
فبعد عقود من غناء مجموعة البيتلز للأغنية الشهيرة "لا يمكنني شراء الحب"، كان جيل كامل من المفكرين الليبراليين يتساءلون كيف سيكون العالم أفضل إذا كان الناس يمكنهم شراء وبيع كل شئ في إطار السوق. فقد ذهب بعضهم أمثال جيسون برينان وبيتر جاورسكي، إلى التطرف في مفهوم البيع والشراء، ليدخلوا فيه كل شئ بما في ذلك بيع وشراء الأعضاء البشرية وحتى الدرجات المدرسية. وعلى الرغم من أن هذه الأفكار متطرفة، إلا أنه يبدو أنها كانت تناسب حقبة سياسية تدعو للخصخصة وإلغاء الضوابط التنظيمية. لكن سببا آخر أكثر أهمية جعل العديد من الاقتصاديين يتبنون تلك الفكرة، وهي القدرة على قياس كل تلك الأفكار عبر النماذج الرياضية المتكاملة وحلها بسهولة!
وفي الولايات المتحدة لا تزال الأسواق تسير في طريقها إلى الأمام، حيث تدرس إدارة ترامب استبدال العديد من المهام العسكرية في أفغانستان بشركات خاصة. كما ألغت إدارة ترامب أيضاً المقترح الذي قدمته إدارة أوباما من قبل بتشريع قانون ضد الحصول على أموال مقابل التبرع بالنخاع العظمي. ومن جهة أخرى، فإن العديد من المفكرين في الولايات المتحدة يروجون لأهمية تقنين البغاء، كما تقوم دائرة الإيرادات الداخلية بالعمل على نقل بعض مهامها إلى خبراء جمع الديون الخاصة. هذا فضلاً عن أن الجهود الرامية إلى الحد من استخدام السجون الخاصة قد توقفت.
لكن الحقيقة، أن هذا شئ غير جيد، فإن السوق مثل أي نظام آخر ينبغي أن يكون له حدوده، ومثل أي حركة أخرى ينغي ألا تتخطى حاجزاً معيناً. وهناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى ضرورة تنفيذ العديد من التفاعلات الإنسانية بدون مقابل مادي أو أي نوع آخر من أشكال الدعم. وهذا أمر طبيعي لأن الكثير من المشاكل الإنسانية لا يمكن التعامل معها وفق منطق الأسواق حيث عمليات البيع والشراء.
وهناك العديد من المشاكل التي تتعلق بنطاق السوق، والتي يطلق الاقتصاديون عليها "تكاليف المعاملات"، ويشير هذا المصطلح إلى أي تكلفة يدفعها الناس عندما ينخرطون في معاملات في إطار السوق لفترة طويلة. وهذا التكلفة ليست مجرد ضرائب مبيعات أو رسوم لبطاقات الائتمان، فهي تشمل كذلك تكلفة الوقت والجهد للوصول إلى تطابق قرارات البائعين مع المشترين، حتى تكون هناك ثقة بين الطرفين لإتمام عملية البيع والشراء، وتحقيق كل طرف للنتائج المرجوة من قراراته.
وقد ذكر الخبير الاقتصادي رونالد كويس أن هذا هو السبب في وجود الشركات في المقام الأول، فبدلاً من التفاوض وبذل المزيد من الجهد والتكلفة في إطار السوق حول القيام ببعض الأعمال مثل كتابة تقرير معين أو كتابة تعليمات برمجية أو القيام بساعات عمل معينة، فإن الشركات تقوم على مجموعة من القوانين والتعليمات التي تضمن حدوث تلك المعاملات دون إنفاق مزيد من الجهد والتكلفة. وهذه العلاقات الاقتصادية داخل الشركات تشبه إلى حد بعيد العلاقات الاجتماعية داخل المؤسسات الاجتماعية البشرية مثل المجتمعات والحكومات وحتى مجموعات الأصدقاء، حيث توجد قواعد وتقاليد تحكم تلك العلاقات.
إن تكاليف المعاملات يمكن أن تنشأ أيضاً من العواطف البشرية الطبيعية، إذا ما تم بيعها في إطار السوق. تخيل أن أحدهم عرض عليك المال لتكون صديقاً له، فإذا كنت إنساناً طبيعياً، فإن ذلك سيشعرك بالغرابة والبرودة. كذلك الجنس الذي قد يؤدي إلى ارتباطاً عاطفياً أعمق من الصداقة، إذا تم بيعه وشراءه فلن يكون ذا قيمة، وهذا هو السبب في أن الكثير من المجتمعات ترفض البغاء. هذا الأمر أيضاً يتعلق ببيع الأعضاء البشرية والذي يثير الاشمئزاز لدى الكثيرين.
إن الولاءات داخل جماعات العمل تكون في المقام الأول للمنظمة وللمجموعة من القيم والزملاء في العمل، وقد يفسر هذا لماذا تؤدي الحوافز النقدية المباشرة إلى تقليل أداء العمل بدل من زيادته. إن خصخصة الجيش وجامعي الضرائب والسجون فكرة سيئة للغاية، لأنها تتجاهل القضية الحاسمة التي تتمثل في الولاء والتفاني والمثالية والالتزام بين القوات القتالية وبين البيروقراطيين في الجهاز الحكومي وبين حراس السجون.
ويمكن لتكاليف المعاملات أن تنشأ كذلك من قرارات الأفراد الآخرين داخل السوق، وهذا ما يسمى الآثار الخارجية. فعندما يترك بعض الأفراد منازلهم دون صيانة، فإن هذا يفرض على جيرانهم العيش في منطقة غير جيدة ومعرضة للمخاطر، وكثيراً ما تحاول الحكومات إدارة مشكلة الآثار الخارجية بالتعاون مع الأسواق، لكن المشكلة أن المجتمعات عندما تترك إدارة مشكلاتها العامة للأجهزة الخاصة، فإن هذا غالباً ما يؤدي إلى التعامل مع تلك الآثار الخارجية بطريقة غير سوقية وغير منظمة، مثل الاعتماد على الجهود الفردية – جمعيات الأحياء- على سبيل المثال.
وإذا ما اعتمدنا على الأسواق في كل شئ، فإن ذلك يؤدي إلى تكبد الكثير من تكاليف المعاملات. تخيل أن ستضطر إلى دفع رسوم للهواء الذي تتنفسه، أو للسير في الشارع الذي تعيش فيه. وفي النهاية ستكون جنة السوق الحرة الذي يتخيلها الكثيرون ما هي إلا سجن.
وإذا كانت الفترة الأخيرة من القرن العشرين قد شهدت توسعاً في نطاق العلاقات الانسانية التي تحدث في إطار السوق، فإن الفترة الأولى من القرن الحادي والعشرين ينبغي أن تكون وقتاً لإعادة النظر في هذا الإتجاه، لاسيما وأن فكرة "الأسواق في كل شئ" تتصاعد إلى خارج حدودها الطبيعية.
رابط المقال الأصلى على موقع "بلومبيرغ":
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق