يرتهن مستقبل
الاقتصاد التركي، المستقر لقرابة عقد ونصف من الزمان، بدرجة التنافس وحدته بين
طبقات رجال الأعمال، المحسوبين على التيار العلماني من جهة، والمحسوبين على التيار
الإسلامي المحافظ من جهة أخرى، ودرجة الحرية الاقتصادية الممنوحة لطبقة رجال
الأعمال.
وفي ظل وجود بعض
القرائن يبدو أن الرئيس التركي يعمل من أجل استغلال الزخم السياسي والشعبي، عقب
الانقلاب العسكري في 15 يوليو 2016، لإنتهاج سياسة "تضييق الخناق"
والتخلص من الخصوم السياسيين وبالأخص أنصار الداعية الإسلامي التركي "فتح
الله كولن"، المتورط في دعم الإنقلاب العسكري.
بيد أن الداخل
التركي يتطلب إصلاحات اقتصادية وسياسية وإتباع سياسة احتوائية للمعارضة المعتدلة،
التي اتخذت موقفًا قاطعًا برفض الإنقلاب العسكري، وتصفير المشاكل الداخلية لتقليل
حدة العداء لحكم أردوغان، في ظل بيئة داخلية تصل لمرحلة الغليان وبيئة خارجية تتسم
بالإضطراب السياسي والتهديدات الأمنية.
التنافس
والصراع بين رجال الأعمال
شهدت تركيا تنافس تاريخي
بين طبقات رجال الأعمال والتي لعبت دور سياسي غاية في الأهمية، وبخاصة مع بداية
عقد التسعينات، وتأسيس إطار تنظيمي لرأس المال الإسلامي عرف باسم "جمعية رجال
الأعمال والصناعيين المستقلين" رسمياً و"المسلمين" فعلياً واختصاراً
تسمي "الموصياد" تأسست في الأناضول عام 1990،
وهي إطار تنظيمي منافس ومشابه لجمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك، صاحبة
النفوذ الأقوى، وتعرف اختصار بـ "توسياد" التي تأسست عام 1971 باسطنبول،
وتعمل الأخيرة من أجل الحفاظ على المكانة السياسية والاقتصادية والتأثير القوي
للقوة العلمانية في نظام الدولة.
لا شك أن هذا التنافس
كان له نتائج حميدة وأحدث طفرة اقتصادية هائلة شجعت القوة المحافظة من الإسلاميين على
جلب أموال قدرت بملايين الدولارات من المغتربين الأتراك في أوروبا وأمريكا وفقاً
لنظام المشاركة في الربح والخسارة، وأحدث ذلك تحولاً ملحوظاً في الاقتصاد التركي، كما
وأن ظهور المصارف الاسلامية كان عامل ربط قوي بين الاقتصاد التركي وعالم المال الإسلامي
ونجح في استقطاب أموال دول الخليج وخاصة العائدة من الولايات المتحدة الأمريكية
بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 الإرهابية.
إلى أن ظهر صراع
محتدم شنته القوة العلمانية، الاقتصادية والسياسية والقضائية والعسكرية، ضد التيار
الإسلامي بحجة أنه ينافي الفلسفة العلمانية التركية والتي يحميها الدستور، وعلى
أثر ذلك تم شن حملات قضائية وتفتيشية موسعة ضد الشركات الإسلامية وإغلاق بعضها وبالأخص
التي انخرطت في العمل السياسي مثل " شركات كومباسان" التي دعمت الحملة
الانتخابية لحزب الرفاة الإسلامي وتشكيل حكومة إئتلافية برئاسة الزعيم الإسلامي "نجم
الدين أربكان" عام 1996 والتي سقطت مع الانقلاب العسكري في عام 1997.
ولسوء حظ إدارة أردوغان،
انقسم رأس المال الإسلامي مع بداية ظهور اتحاد الصناعيين ورجال الأعمال التركي
والذي يعرف اختصارًا بـ "توسكون" في عام 2005 والموالية لجماعة "فتح
الله كولن"، بينما ظلت جماعة "الموصياد" موالية للرئيس أردوغان. وأصبح
هناك تنافس وصراع تقليدي بين جبهتين رئيستين "جماعة توسياد" الليبرالية
من جهة وجماعتي "موصياد" و"توسكون" الإسلاميتين من جهة أخرى،
وظهور صراع بين جماعة "موصياد" و "توسكون" الإسلاميتين بعد
عام 2013.
من التحالف إلى الصراع
كان لتزاوج المصالح، بعد عام 2003، دور في
تقارب بين أردوغان وفتح الله كولن، داعية إسلامي تركي مؤسس حركة كولن الخيرية،
والتي تعرف باسم حركة الخدمة، بدأت نشاطها في أواخر الستينات وعكفت، بشكل خاص، على إنشاء
المدارس والاهتمام بالتعليم، كما ويدير أتباع كولن جماعة "توسكون" ،هذا
الاتحاد المكون من أكثر من 120 ألف شركة تركية وتدير حركة كولن أيضاً صحيفة زمان
والنسخة الانجليزية منها "زمان اليوم" والمحققة لمبيعات مرتفعة وبنت
الحركة ثروة ونفوذا ضخما على الصعيدين؛ المحلي والدولي.
وبدأ الصراع بعد أن وجد رئيس الوزراء التركي
عام 2013، أردوغان، نفسه أمام موجة عارمة من الانتقادات بعد تسريبات وتسجيلات
صوتية كشفت عن قضايا فساد كبرى ودخول تركيا في أزمة سياسية. على أثرها، أجرى تعديلاً
وزارياً بعد أن استقال ثلاث وزراء
(الاقتصاد والداخلية والبيئة)، ومثلت قضايا الفساد تحدياً كبيراً لحكومة أردوغان. وبدأت
الأزمة بعد أن ألقي القبض على عشرات الأشخاص، من بينهم رئيس بنك خلق المملوك
للدولة بتهم فساد، ووضعت الأزمة أردوغان في مواجهة مع السلطة القضائية، وتزايدت
الاحتجاجت المناهضة لحكمه في منتصف عام 2013.
واتهم أردوغان فتح
الله كولن بالوقوف خلف التسريبات الصوتية وافتعال الأزمة السياسية للإطاحة
بالحكومة، وإثارة فضيحة الفساد على نطاق واسع من خلال الأداة الإعلامية، ومحاولته
قلب نظام الحكم وإدارة ما أسماه، دولة موازية، داخل مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام
في تركيا والعمل على جمع معلومات والتنصت على رئيس الوزراء نفسه ومسؤلين رفيعي
المستوى داخل دولاب العمل التركي.
ومن ذلك التاريخ أدارت
الحكومة التركية شبه صراع مع رجال الأعمال والقضاء والسياسيين ورجال الشرطة الموالين
لحركة كولن وإتباع سياسة تضييق الخناق وإقصاء أنصار كولن عن المناصب العليا والعمل
من أجل غلق مدارس حركة الخدمة في أنحاء العالم، بل وملاحقات قضائية، وإدراج الحركة
ضمن قوائم الحركات الإرهابية، واعتقال عشرات الأفراد من ضباط الشرطى المتهمين
بالتنصت على محادثات هاتفية لسياسيين وموظفين حكوميين ورجال أعمال وقالت الحكومة
إن التنصت على المحادثات الهاتفية كان جزءاً من حملة يقودها، كولن، بهدف الإطاحة
بالحكومة، وانتقل الصراع بين أردوغان وكولن إلى الجهاز المصرفي مثل ملاحقة بنك
آسيا، بنك إسلامي تردد أنه مملوك لأنصار كولن، وقيام شركات شبه حكومية بسحب أرصدتها
من البنك وحرمانه من مميزات ضريبية، وفي مارس 2016 اقتحمت الشرطة التركية مقر
صحيفة زمان بعد ساعات من إعلان محكمة تركية وضع الجريدة تحت سيطرة الدولة.
التبعات
المستقبلية
كان لرجال الأعمال
والقطاع الخاص فضل كبير في خلق قيمة مضافة بالاقتصاد التركي وتحقيق الاستقرار
الاقتصادي وبلوغ الناتج المحلي الإجمالي 4.5 في المئة، في المتوسط، وتحولت تركيا
إلى مركز صناعي وتفوقت في مجال الصادرات الغذائية والإلكترونية ونجاح حكومة حزب
العدالة والتنمية في السيطرة على معدل التضخم عند أرقام أحادية، أقل من 10%، بعد
أن بلغ أرقام قياسية وصلت إلى 100% في التسعينات.
ومن المنتظر اتباع
الإدارة التركية لآلية أكثر تعقيداً للتعامل مع رجال الأعمال وبالأخص رجال الأعمال
المحسوبين على الداعية التركي، فتح الله كولن، والمتورط في استخدام نفوذه المالي
والسياسي والقرب من دوائر الحكم للقيام بانقلاب ضد الرئيس التركي وحكومته وفي هذا
الصدد يمكن التعرض لفرضيتين للتعامل مع طبقة رجال الأعمال.
سياسية تضييق
الخناق؛ وظهر ذلك جلياً من خلال حملة ممنهجة يشنها النظام التركي منذ فشل الانقلاب
العسكري لتصفية خصومه، وتشير بعض التقارير إعتقال نحو 6000 شخصاً منذ فشل الإنقلاب
بينهم، على الأقل، 2840 من الجيش و2745 من القضاة كما أغلقت الحكومة خمسة مواقع إخبارية
في حملة قمعية جديدة على حرية وسائل الإعلام. ليس هذا فحسب، بل ومطالبة الجماهير
بالبقاء في الميادين لحين استقرار الأمور وفي ظل هذا الوضع من الممكن أن تقدم
الحكومة ليس فقط فصل المواليين لكولن من مؤسسات الدولة بل ومصادرة أملاك وشركات
وأرصدة بنكية لرجال أعمال من جمعية "توسكان" الموالية لكولن. هذه
السياسة ستخلق ضغوطاً دولياً على الحكومة التركية من باب حقوق الإنسان والتضييق
على وسائل الإعلام وحماية استثمارات رجال الأعمال. فضلاً عن هروب رأس المال المحلي
واتباع سياسة تنموية سلطوية يستفيد منها رجال الأعمال المقربون من النظام دون
غيرهم.
سياسة الإحتواء؛
في ظل العداءات التي يشهدها أردوغان داخلياً، والصراع التقليدي الليبرالي الإسلامي
ودخول رجال الأعمال من حركة "توسكان"، الموالية لفتح الله كولن، على خط
المواجه ضد أوردغان كل هذه المتغيرات تدفع في اتجاه، ضرورة، تبني سياسة أكثر مرونة
للتعامل مع الداخل التركي والنظر بعين الإعتبار لما يعرف بسياسة الإحتواء، أول من
استخدم مصطلح سياسة الاحتواء هو جورج كينان الدبلوماسي الأمريكي المعروف باهتمامه
بالعلاقات الأمريكية السوفيتية سابقاً لإحتواء المد الشيوعي، للحفاظ على المكاسب
الاقتصادية المحققة فسياسة تضييق الخناق من شأنها عرقلة المسيرة التنموية لتركيا وخفض
ثقة الاستثمار في الإقتصاد التركي.
وختاماً يمكن
القول أن تركيا تشهد في الوقت الراهن تحديات جمة داخلية وخارجية فضلاً عن تراجع
معدل النمو الاقتصادي، وعلى الرغم من فشل الانقلاب إلا أن هذا سيمثل تحدي لمناخ
الاستثمار وقطاع السياحة، كما وأن سياسة الإقصاء لن تزيد المشكلات الإ تعقيداً،
لذا كان لازماً على الحكومة التركية التعامل بحكمة مع المعارضة المعتدلة ومشاركتها
في الحكم وتجنب السلطوية للحفاظ على المكتسبات التي حققها حزب العدالة والتنمية
الحاكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق